الهَدم والبناء الاستعماري في الجولان

الهَدم والبناء الاستعماري في الجولان

By : Aamer Ibraheem عامر إبراهيم

افتتاحية

في السابع من أيلول من العام المُنصرم، داهمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قرية مجدل شمس السورية، ونفّذت أمام أعين عشرات السكّان، مُستخدمةً جرّافاتها الثقيلة، أمر هدم منزل السيّد بسام جميل إبراهيم وزوجته داليا بدعوى تشييده دون ترخيص بناء، معلنةً بذلك نيّتها عن هدم عشرات المنازل التابعة للسكان السوريين في قرى الجولان المُحتل1. بالرغم من أن عملية الهدم هذه قد تبدو سابقة في قرى الجولان المُحتل في العقد الأخير، إلّا أنها في الواقع لا تشكّل حدثًا مفصليًا وفريدًا من نوعه، بل حتى بعيدة كل البعد عن ذلك. كَيف لنا قراءة مُمارسة المشروع الصهيوني تجاه الحيّز والجغرافيا في الجولان؟ وأين يمكن مَوضَعة هدم البيوت اليوم في السياق التاريخي الأوسع، وأية عمليات للبناء تقوم مقابل هذا الهدم، بأية أشكال، وأية أجسام قائمة على تنفيذها؟ إن تاريخ المشروع الصهيوني واستحواذه على الجغرافيا وعلى الأرض، وهندسته العنيفة للمكان (والزمان) في الجولان السوري طويلٌ، مُتشعّبٌ وشائكٌ وسآتي على ذكر البعض منه في ما يلي.

الهَدم أولًا: هَوس تطهير المكان

انتاج وتشكيل الحيّز المُستَعمَر في الجولان تاريخيًا، استهلَّ من خلال عمليات إسرائيليّة ركّزت بالأساس على تدمير واسع النطاق لِما كان، وعلى تهجير قَسري للسوريين تَمحْوَر بالأساس على الترهيب والقتل ونهب الأرض ومن ثم تدميرها. فبعد الحرب عام 1967 مباشرة، لم تُبقِ إسرائيل في الجولان سوى سبع قرى فقط من أصل 139 قرية عربية، و61 مزرعة كانت مُسجّلة بأسماء أصحابها العرب السوريين قبل الحرب2. وخَلقَ تهجير الجيش الإسرائيلي شبه الكامل للسكان السوريين من الجولان إبان الحرب الظروف المواتية لشن حملة مُمنهجة استهدفت تدمير القرى والمزارع والمنازل. وسرّع التدمير الإسرائيلي واسع النطاق هذا من إعادة إنتاج المكان في الجولان (جغرافيًا وديموغرافيًا) ليتلائم والمشروع القَومي الصهيوني ومُبتغاه. وكان هذا التدمير بمثابة استكمالًا (شبيهًا) للتدمير الذي طال فلسطين التي كانت مأهولة عقب النكبة عام  1948. 3 أي بكلمات أخرى، خَضع المشهد الجغرافي في الجولان (وبالأساس الديموغرافي منه) لعمليات انطوت على مَحو عنيف، كَون أن "الاستعمار الاستيطاني يُدمّر المشهد القائم لكي يحل محله ويقوم مَقامه"، حسب الوصف الذي يسوقه لنا الباحث الاسترالي باتريك وولف.4 

إنَّ تَبنّي الحالة الاستعمارية الاستيطانيّة للجولان كإطار مَعرفي تحليلي يأتي بقصد تمييز الظرف الراهن عن مُمارسات إحلاليّة قسريّة أخرى، مثل الاحتلال أو الظرف الاستعماري الكلاسيكي. ففي مُلاحظة لا بُد منها هنا، يوضّح الباحث الإيطالي فيرتشيني في كتابه "الاستعمار الاستيطاني: إطار نظري عام"،5 الاختلاف ما بين أشكال الاستعمار الكلاسيكي وأشكال الاستعمار الاستيطاني. فعلى سبيل المثال (لا الحصر)، في حين الدولة المُستعمِرة، حسب الشكل الاستعماري الكلاسيكي، تدير استعمارها التوسّعي وتحرّكه انطلاقًا من دولة أم، أو ميتروبول بعيد جغرافيًا (بريطانيا في أفريقيا، أو فرنسا في الجزائر على سبيل المثال)، يقوم الاستعمار الاستيطاني على مُمارسة الاستعمار من داخل الأراضي المُستعمَرة ذاتها (إسرائيل في فلسطين والجولان على سبيل المثال). بهكذا، تكون الدولة حديثة المنشأ، هي نفسها مشروع استعماري (كما أنها امتدادًا للتوسّع الإمبريالي الأوروبي)، ومشروع استيطاني (كَونها تستهدف الأرض ومَن عليها بهدف البقاء)، إلى جانب كونها دولة "أم"، ومشروع قومي للشعب اليهودي في الحالة الصهيونيّة.6 وتباعًا لذلك، يُكمل فيرتشيني، بأنه وعلى عكس القوى الكولونيالية في الشكل الكلاسيكي الأول – من ضبّاط وعسكريين وجنود وباحثين مُستشرقين وغيرهم – الذين يعودون أدراجهم إلى دولتهم "الأم" بعد انتهاء وجلاء عملية الغزو والاستعمار الذين شاركوا فيها وكانوا جزءًا منها، يبقى المستوطنون في المُستعمَرة في الشكل الاستعماري الاستيطاني (كندا على سبيل المثال).

إضافة إلى ذلك، فإن محاولات إعادة إنتاج المكان في الجولان بعد احتلاله مُباشرة وهندسته قسرًا على يد الأجسام الإسرائيلية المختلفة ليصبح "مكانًا إسرائيليًا"، فُرِضَت (ولا زالت تُفرَض حتى اليوم) من خلال سياسات وممارسات الإبادة المُمنهجة تجاه الأرض، المزرعة، القرية والمدينة7 السورية في الجولان. كما وتَرافقَت بشكل وثيق مع العنف تجاه الإنسان السوري هناك وجسده وعائلته بهدف مَحوهم هم أيضًا و"تطهير" الأرض منهم. ودرجة التطهير الإثني في الحيّز المُستعمَر، على حد اعتبار فيرتشيني،8 تُعتَبر محورية لفهم النظام السياسي الجديد فيه، كَون أن وجود أو غياب "الآخر الأصلاني"، أي سكان الجولان السوريين في هذه الحالة، يُساعد في تحديد الحالة المكانيّة والقانونية التي يطمح المشروع الاستيطاني إلى انتاجها داخل الإقليم المُستعمَر الذي نُفِّذَت فيه عمليات التطهير الإثني.

لهذا، فلا يمكننا تجاهل حقيقة أنه ومن مُجمل السكان السوريين في الجولان الذين بلغ عددهم حوالي 130،000 نسمة قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، لم يبقَ سوى ستّة آلاف نسمة بعد الاحتلال، أي 5% فقط من عدد السكان الأصلي.9 ليسَ هذا فقط، إنما ترافَقا المَحو الجغرافي والديموغرافي هذان بجهود حركات صهيونيّة مُكثّفة هَدفت بالأساس إلى الاستحواذ على المكان وملأ "الفراغ الجديد" الذي تشكّل إبّان الحرب وعمليات المَحو الديموغرافيّة. فكانت المجموعات الأجنبية الأولى من المستوطنين الإسرائيليين التي "توسّعت وانتشرت في المكان" وجعلت من الجولان مَوطنًا لها بعد الاحتلال هي من أتباع حركة الكيبوتسات الموحّدة، التي كانت حليفة حزب العمل الإسرائيلي والتي انتقلت في نفس العام من احتلال الجولان للاستيطان في الثكنات السورية المُهجّرة.10 

ازدادت أعداد المستوطنين الإسرائيليين في الجولان مع السنوات وازدادت مشاريعهم أيضًا، واقتلعوا القرى والمدن السورية وأسمائها11 وأحراشها وطرقاتها وطبيعتها في محاولة منهم لفَرض سرديّة جديدة خاصة بهم وجعلها تاريخيّة في المخيال الجَمعي الإسرائيلي.12 فما يُميّز الظرف الاستعماري الاستيطاني على حد اعتبار فيرتشيني،13 هو الحركة الجماعية الدائمة للمُستعمِر في المكان (movement across space to displace)، وحرصه الدائم على التأكيد على فَوقيّته (superiority)، إن كان عن طريق فَرض القانون الخاص فيه قسريًا، والاحتماء فيه، فرض الأسماء على المكان وبناء المستوطنات، وحظر التنقّل وتأميم الأماكن التابعة لأصحابها السوريين الغائبين وغيرها.

في تحليلهما شكل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية في الجولان، يشير كل من رام وغوردون إلى الظرف الخاص للجولان في السياق الإسرائيلي، ويوضّحان اختلاف هذا الشكل عن نظيره في الضفة الغربية على سبيل المثال. فما ميّز المشهد الديموغرافي في الجولان على مر السنوات، على حد اعتبارهما، هو أن "السوريين لم يشكّلوا تهديدًا ديموغرافيًا للطابع اليهودي للدولة بالنظر إلى بضعة الآلاف الذين بقوا منهم في الجولان".14 لذلك، فإن ازدياد أعداد المستوطنين في الجولان على مر السنين لم يكن بنفس الوتيرة العالية لتلك التي كانت (ولا تزال) عليه في الضفة الغربية.15 إن هذا التحليل ذات أهمية في سياق الورقة الحالية، كَونه يسلّط الضوء على البُعد الجغرافي للتوسّع الإسرائيلي وحركته في المكان، ولا يحصرها فقط على مُركّبها الديموغرافي. فبعيدًا عن الوتيرة المحدودة (نسبيًا) لتزايد أعداد المستوطنين اليهود في الجولان، والذين يشكّلون اليوم، أي بعد مرور خمسون عامًا منذ احتلاله، ما يُقارب 50% من سكان الجولان عامةً،16 فإن الحركة الدائمة للمُستعمِر في المكان في الحالة المطروحة اليوم، هي بالأساس حركة جغرافية تتشكّل عن طريق ازدياد (عدد) المساحات الإسرائيلية (العامة والخاصة) في الجولان، كما التوسّع في البناء، مقابل استمرار تقنين ومَحو وإبادة المساحات السورية، أو تلك التي لا زال يسكنها السوريين حتى اليوم. فعلى سبيل المثال، في حين يسكن اليوم ما يقارب عشرون ألفًا من السوريين في خمس قرى فقط شمال الجولان وهم مجدل شمس، مسعدة، بقعاثا، عين قنية والغجر، يسكن حوالي عشرون ألف مستوطن في أكثر من 30 مستوطنة غير قانونية في الجولان.17 

مع هذا، وفي ملاحظة لا بُد منها هنا، فإن الواقع الاستيطاني في الجولان اليوم لا يُمكن قراءته على انه بمثابة تحقيق كامل للمشروع الاستعماري والمخطط الاستيطاني الإسرائيلي. أي أنه وبالرغم من أن ممارسة المَحو والإبادة طالت 95% من السوريين خلال النكسة وبعدها، انما لم يتم تطهير الأرض من جميع سكّانها.18 ليس هذا فقط، انما سوريي الجولان الذين كان عددهم حوالي ستّة الاف بعد الاحتلال، تصل أعدادهم اليوم، كما ذكرت أعلاه، إلى ما يقارب عشرون ألفًا. هذا بالإضافة إلى أن نسبتهم تكاد تساوي، أو حتى تفوق بقليل، نسبة المستوطنين اليهود في الجولان، وهذا بعد خمسون عامًا من المحاولات الإسرائيلية في تجنيد كل ما لديها، من مخططات سياسية واقتصادية وتسويقيّة، لنقل مستوطنين جُدد إلى المنطقة. لذلك، فالحديث هنا يدور على محاولات مُستمرة للمحو السوري في الجولان، بدلًا من مشروع استعماري استيطاني خالص. وبناء على هذا، فإن قراءتنا لممارسات الهدم عليها أن ترتكز على أنها محاولات مُستمرة لجلب المشروع الاستيطاني إلى مراحله الأخيرة الخالصة.

ففي الهَدم الفعلي لمنزل السيد بسام إبراهيم في مجدل شمس مؤخرًا ونيّة السلطات الإسرائيلية في هدم بيوت أخرى بحجة "البناء غير الشرعي"، ما يعيدنا إلى مُعادلة التوسّع الإسرائيلي جغرافيًا في الجولان مقابل تقليص ومَحو الوجود السوري. وهو نفسه يُبطِل الفكرة القائلة بأن النكسة قد انتهت آنذاك وتوقّف معها توسّع المشروع الاستيطاني في الجولان، ويُشدد على استمرار حدوث المَحو كممارسة فعلية في الحاضر ليَكون بذلك "بُنيةً وليس حدثًا"، باستعمال مفهوم وولف للشكل الاستعماري الاستيطاني.19 فكما سبق وذكرت، إن التوسّع الدائم في المكان هو عنصر خاص لا يمكن اختزاله لشكل الاستعمار الاستيطاني هنا، وهو ذاته دلالة حيّة على عدم وصول المشروع لإتمام هدفه "الخالص" الذي لطالما طَمح لتحقيقه. فمن أجل تفسير مقولة "الاستعمار الاستيطاني يُدَمّر بهدف الاستبدال"، يقتبس وولف ملاحظة ثيودور هرتسيل، الأب المؤسس للصهيونية في روايته المجازية "إن كنت أرغب في استبدال مبنى قديم بجديد، فعلي أن أدمّر القديم قبل أن ابدأ بالبناء".20 

في تحليله للميّزات الجوهرية للحركة الصهيونية، أشار الباحث فايز الصايغ في كتابه "الاستعمار الصهيوني في فلسطين"21 والذي صدرت نسخته الأولى عام 1965، إلى حقيقة أن العنف والإرهاب هم ليسوا نتاج الحركة الصهيونية أو "أعراض جانبية" لها كَونها حركة استعمارية فحسب، انما شكّلوا عبر تاريخ الحركة، ولا زالوا يُعتَبروا حتى اليوم، ميّزة جوهرية واداة مركزية في جهود الاستعمار، والتي تم ممارستها ليسَ فقط ضد الفلسطينيين ومنازلهم وقراءهم قبل وخلال وبعد النكبة، انما أيضًا على مَن وقف ضد المساعي الاستعمارية لفلسطين من الجهات الأجنبية. إن هذا العنف والإرهاب الذي تم شرعنته قانونيًا منذ قيام الدولة، كمجزرة إقرث (كانون أول عام 1951)، وأبو غوش (أيلول، 1953) وكفر قاسم (تشرين أول، 1956) وعكا (حزيران، 1965) وغيرها من الأحداث، هي بمثابة عنف مُنظّم تجاه كل حَي وجماد في المكان وهو نفسه المُمارَس اليوم تجاه المسكن في الجولان.

تطهير المكان تحت حجج "حماية الطبيعة" و"دعم السياحة المحلية": البناء كأحد أنماط الهَدم

يبدأ باتريك وولف في مقالته "الكولونيالية الاستيطانية واستئصال/محو السكان الأصليين"،22 بمقولة "الأرض هي الحياة، أو على الأقل ضرورية للحياة"، وبالتالي، فإن "النزاع والصراع على الأرض يمكن أن يكون، وهو عادة ما هو، صراع على الحياة". بعد تطرّقي أعلاه إلى سياسات الهدم الإسرائيلية في الأماكن السورية في الجولان (تلك التي كانت مأهولة سابقًا، وتلك التي لا تزال مأهولة حتى اليوم)، وقراءتها ضمن مفهوم العنف المُتجذّر في الحركة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، سأحاول في الفقرات التالية توضيح نَوعين من مُمارسات البناء الإسرائيلية في الجولان، والهادفة إلى تغيير معالم المكان الأصلية: أولًا، البناء والتوسّع الإسرائيلي خارج القرى السورية المأهولة اليوم في الجولان بحجّة "التطوير والحماية والسياحة" ضمن مشاريع يتم تنفذيها على يد أجسام حكومية وهيئات شبه حكومية مختلفة تعمل بغطاء الدولة، وثانيًا، البناء والتوسّع الإسرائيلي داخل قرى الجولان السورية وطَمس معالمها بحجّة "تطويرها اقتصاديًا". كَون أن البناء عادة ما يتم تعريفه كنقيض للهدم (ثنائية البناء والهدم، على أنها ثنائية الوجود والعدم)، ففي الحالة السورية في الجولان يشكّل البناء الإسرائيلي نمطًا آخرًا من الهدم والمَحو ذاتهما.

"المحميّات الطبيعيّة": ذات التكتيك الاستعماري، وذات الجهات المُنفِّذة

لطالما انطلق المشروع الصهيوني من فكرة "الأرض الخالية"23 التي انتظرت قدوم الرجل اليهودي لانقاذها وزراعتها وحمايتها، ولطالما عَملت إسرائيل على تحقيق هذه الفكرة المُتخيّلة فعلًا في الجولان (كما في الأراضي الفلسطينية) منذ احتلالهما عامَي 1948 و1967. ومن الحقائق المعروفة أيضًا، أن تخطيط الأراضي في إسرائيل مُستثمَر (ومُستغَل) من قبل الدوائر الحكومية للدولة كوسيلة لتحقيق أجندة سياسيّة24 ترتكز على يهوديّة الدولة. وعلاوة على ذلك، تُعلَن هذه السياسة بصراحة، ويُعتَرف علنًا بشرعيّتها (مثل المخطط الإسرائيلي لتهويد الجليل، والحفاظ على الأهداف الديمغرافية للأغلبية اليهودية في القدس، ومشاريع ومخططات أخرى). وفي إطار هذه السياسة، كثيرًا ما تُجَنَّد المساحات والأراضي طوعًا، لتشكل عنصرًا أساسيًا في أي مُخطط حكوميّ، لتحقيق أهداف سياسية قومية. ليسَ هذا فقط، إنما غالبًا ما تَصب جهود الحفاظ على الطبيعة وحماية الأحراش والمساحات الطبيعية بخدمة السلطات كوسيلة للاستيلاء على الأراضي وتهويد الحيّز الإقليمي. ففي الجولان أيضًا، كما أشاروا إلى ذلك كل من غوردون ورام25 في بحثهما الأخير، أخذت "سُلطة المحميات الطبيعية الإسرائيلية" (Israel Nature Reserves Authority) دورًا مركزيًا مُباشرةً بعد احتلال الجولان، بحيث أعدّت قائمةً بالقرى التي تم تهجيرها قسرًا، وقررت تحويلها إلى "محميات طبيعية" وقدّمتها إلى "سلطة الأراضي الإسرائيلية 26(Israel Land Authority).

ولم ينحصر هذا آنذاك وحسب. فمؤخرًا، عادت السياسة الإحلاليّة الإسرائيلية إلى الطبيعة لتأخذ منها مسرحًا حصريًا لممارسة سياساتها، ولتلعب دورًا مركزيًا في تضييق المسكن على السوريين في الجولان وحصرهم في غيتوهات جغرافيّة ضيّقة. ففي العام 2013 أقرّت "سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية" خارطة هيكلية بعنوان "محمية حرمون الطبيعية" حملت رقم 27760/ج، والتي تبلغ مساحتها المقترحة حوالي 82 ألف دونم، وتلامس حدودها خَط الخارطة الهيكلية لقرية مجدل شمس، وبعض حدود قرية عين قنية لتبتلع منهما آلاف الدونمات، لتفاقم بذلك "أزمة السكن" الخانقة وحرمان السكان السوريين من مواصلة الاستفادة من هذه الأراضي لأغراض التمدد العمراني والزراعة والرعي وغيرها كما جرت عليه العادة منذ مئات السنين.

لم يأتِ اطلاق مصطلح "محمية طبيعية" على جهود الاستيلاء على أراضي السوريين في الجولان، آنذاك واليوم، محض صدفة. فغالبًا ما كان التبرير الأيديولوجي للاستيلاء على موارد السكان الأصليين في أشكال الاستعمار المختلفة هو "قدرة المستعمِر على استخدام الأرض بشكل أفضل من الأصلاني"، وليس "علاقته التاريخية مع هذه الأرض وعودته إليها". هذا هو المنطق الذي تنطلق منه "سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية" في الجولان، فأرض الجولان على حد اعتبارها "خالية"، وتقضي الحاجة "لحمايتها"، وهو ما يَصب في قلب الخطاب الصهيوني الكولونيالي-القَومي.

يُعتبَر إنشاء "المحمية الطبيعية" هذه، وغيرها في الجولان، أحد أنماط البناء. فهو عمليًا إنشاء ما هو جديد، وخلق ظروف مكانيّة ثابتة في الفضاء المُستعمَر. إلّا أن هذا البناء يُشكّل في الحالة العينية شكلًا من أشكال الهَدم والمَحو كَونه يعمل على مستويين اثنين. الأول منهما يقتضي بالاستيلاء على الأرض التابعة للسوريين من سكان الجولان (والذين بمعظمهم اليوم متواجدين خارج الجولان نتيجة للتهجير القسري الإسرائيلي عام 1967)، وتغيير معالمها لتصبح مع الوقت جزءًا من الإرث اليهودي في الجولان. أما المستوى الثاني، فيعمل على خنق ما تبقّى اليوم من السوريين في قرى الجولان، والتضييق عليهم بهدف حصرهم جغرافيًا، لضمان عدم توسّعهم (وهو ما يدعم النتيجة المرجوة لدى السلطات الإسرائيلية بالتأكيد على عدم ازدياد السوريين في الجولان في المستقبل ديموغرافيًا، أو ما معناه إبادتهم ومحوهم البطيء).27

الطريق إلى/من القرية: التوسّع الإسرائيلي داخل القرية السورية

بعد الاحتلال الإسرائيلي للجولان، ومن أجل إدارة شؤون القرى السورية تحت الحكم العسكري آنذاك، عيّنت السلطات الإسرائيلية في السبعينات رؤساء مجالس محليّة. هذا التعيين كان خارجيًا ومفروضًا، فعلى سبيل المثال رئيس المجلس المحلي الذي تم تعيينه في قرية مجدل شمس آنذاك لم يكن أصلًا من أبناء القرية، كما ولم يحظَ التعيين بشكل عام بموافقة السكان السوريين الذين استمروا في إدارة شؤونهم المحلية بشكل مُستقل نوعًا ما في مجالات عدّة حتى يومنا هذا. 28

مع هذا، لم تكفّ المجالس المحلية في الجولان عن محاولاتها في تقديم واقتراح (وفي بعض الأحيان فرض) مشاريع مؤسرلة بهدف استكمال مشروع "ضم الجولان" الذي بدأ الكيان الإسرائيلي بتنفيذه رسميًا وحسب قانونه البرلماني مع بداية الثمانينات. هذه المحاولات اتخذت أشكالًا عدّة كان الأكثر حديثًا منها (وبالتأكيد ليسَ آخرها) محاولات زج الشبيبة من طلاب المدارس في الجولان في برامج الكشافة الدرزية التابعة للحركات الصهيونية، وإعلان المجلس المحلي في مجدل شمس عن نيّته جعل البلدة مُنتجعًا سياحيًا حيويًا عن طريق بناء حديقة عامة وترميم الشوارع والحارات المحلية. هذا الأخير هو ما سأركّز عليه في الأسطر الآتية كشكل من أشكال البناء الحديث الذي يَصب هو أيضًا في جهود المَحو والهدم المحليين.
فضمن مشروع "تطويري" أعلنت عليه السلطات الإسرائيلية في قرية مجدل شمس مؤخرًا كان ترميم مداخل القرية وترصيفها وزراعتها، إضافة إلى توحيد اليافطات فيها لتحمل أسماء المحلات التجارية، وهو مشروع شارفت على تخطيطه مجموعة مهندسين إسرائيليين. هذا الترميم على مداخل القرى والشوارع الرئيسية فيها هدف بالأساس إلى تجهيز البنية التحتية في القرية السورية للسائح الإسرائيلي لتشكّل بذلك مُنتجعًا سياحيًا يوفّر له تجربة فردية واستشراقيّة وحتى اكزوتيكيّة. ولتسهيل ذلك عليه، تُكتب اليافطات في لغته، وفقط في لغته ليصبح "النبي اليعفوري" على سبيل المثال "هنافيه ياعفوري" في العبرية. فتُمحى من اليافطات عناوين المكان العربية، لتبقى مكانها فقط تلك التي في اللغة العبرية (الصورة الأولى). ليس هذا فقط، انما تُفرَض على السكان السوريين قوانين عقابية وتشهيريّة لأولئك الذين يقومون برفع الأعلام السورية على سطوح بيوتهم في تلك الحارات "السياحيّة"، كما وتُمنَع اقامة الاحتفالات الوطنية (السورية) هناك، تحسبًا من إخافة السائح الإسرائيلي. هذه السياسات جميعها هي ليست فقط سياسات مَحو للتاريخ والهوية، انما أيضًا محاولات لتهجين المحلي وجعله مزوّد خدمات سياحيّة فقط.

إن محاولات تهجين المحلّي عليها أن تكون دليل قراءتنا لخطط البناء والسياحة الداخلية في الجولان عامةً وفي قرى الجولان السورية المحتلة خاصة، فعلى حد اعتبار الباحث إسماعيل ناشف في كتابه معمارية الفقدان (2012)، 29 تُشّق الطرقات الجديدة والمرمَمة من مداخل القرى كشرايين إلى داخلها، وتجعل بذلك امتدادًا من المستعمَرة للقرية. فالنظام بشكل عام، والاستعماري بشكل خاص، مسكون بهوس تغيير معالم البلد وإعادة تسميتها، ماديًا ورمزيًا. كَون أن قرانا أصبح لها جادة، في مدخلها فقط، لا بد أن يعيدنا للاستثمار بمعمار جسدنا الخاص والعام. الجادة في القرية هي حلقة وصل بين فضاءَين علاقتهما مُحددة جدًا، وإلى حد كبير واضحة المعالم (فضاء مُستعمِر وآخر مُستعمَر).


خاتمة

ممارسات هَدم البيوت في الجولان والتي "أنعشتها" المؤسسة الإسرائيلية مُؤخرًا هي ليست سابقة من نوعها، ويعود تاريخها إلى تاريخ التوسّع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في الجولان. كما أنّها واحدة فقط من نماذج المَحو الاستعماري المختلفة التي تنتهجها مؤسسات وأجسام إسرائيلية مختلفة تعمل بغطاء الدولة بهدف استبدال الأصلي. لذلك، قراءتنا لممارسات الهدم يجب أن تأتي بالتوازي مع قراءتنا لممارسات البناء (إن كان عن طريق حجة تجديد المكان وترميمه، أو الاستثمار بالسياحة أو الحفاظ على الطبيعة). فكما ذكرت في بداية النص هذا، فهذا هو هَوس المُستعمِر الدائم، هَوس تغيير المكان والبيت والوجود، هَوس تغيير المُسمّيات والتاريخ، هَوس التطهير والترحيل. فالحلم الخالص بحسبه هو الأرض الفارغة التي لا شعب غيره فيها.

هوامش:

1. راجعوا البيان الصحفي الصادر عن مركز المرصد - المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان، بتاريخ أيلول 2016 حَول قضية هَدم المنزل

Changing the Landscape: Israel’s Gross Violations of International Law in the .2 Occupied Syrian Golan, November 2008. Al-Marsad - Arab Human Rights Centre in Occupied Golan
 
Leshem, N. (2013). Repopulating the emptiness: A spatial critique of ruination in .3 Israel/Palestine. Environment and Planning D: Society and Space, 31(3), 522-537

Wolfe, P. (2006). Settler colonialism and the elimination of the native. Journal of .4 Genocide Research, 8(4), 387-409.

Veracini, L. (2010). Settler Colonialism: A Theoretical Overview. Palgrave .5 Macmillan UK.

6. لقراءة موسّعة ونقاش حَول الحركة الصهيونية كحركة صاحبة مشروع كولونيالي مع مميزات قوميّة يرجى مراجعة: روحانا، نديم (2014). المشروع الوطني الفلسطيني: نحو إعادة الإطار الكولونيالي الاستيطاني. مجلة الدراسات الفلسطينية، 97، 18-36.

7. لقراءة شهادة بهيّة أبو جبل، من سكّان مدينة القنيطرة سابقًا، تسرد عن المدينة السورية في الجولان وحياتها قبل الاحتلال: "هزيمة حزيران: القنيطرة أجمل المدن صارت مدينة أشباح" .

8. راجعوا الملاحظة الهامشية رقم 5.

9. حلبي، أسامة ومرعي، تيسير (1993). الحياة تحت الاحتلال: مرتفعات الجولان. مجلة الدراسات الفلسطينية، 4(13)، 29.

10. صفحة رقم (78)، في النسخة المُترجمة من رام، موريئيل، وغوردون، نيف (2016). التطهير الإثني وتشكيل أنماط جغرافيا الاستعمار الاستيطاني. مدار - مجلة "قضايا إسرائيلية"، عدد 62، 70-93.

11. من هذه المستوطنات تُذكَر مُستوطنة "أفيك" على أطلال مدينة فيق السورية، مستوطنة "كاتسرين" على أرض قصرين، و"كفار حاريف" فوق أراضي كفر حارب، وهكذا. لمراجعة أسماء القرى والمدن السورية التي على أنقاضها قامت مستوطنات إسرائيلية راجعوا القائمة الصادرة عن المرصد - المركز العربي لحقوق الانسان في الجولان.
 
12. بالرغم من استمرار الرَفض الدولي حتى اليوم بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على أراضي الجولان المحتل.

13. راجعوا الملاحظة الهامشية رقم 5.

14. هدف المقارنة في تحليل كل من رام وغوردون هو الإشارة إلى الأنماط المختلفة للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وانشاءه جغرافيات استعمارية مختلفة كانت قد احتلت في العام 1967. صفحة رقم (85)، في النسخة المُترجمة من رام، موريئيل، وغوردون، نيف (2016). التطهير الإثني وتشكيل أنماط جغرافيا الاستعمار الاستيطاني. مدار - مجلة "قضايا إسرائيلية"، عدد 62، 70-93.

15. يجب التعامل مع هذا الادعاء بحذر شديد، والتشديد دائمًا على أن الأمن العسكري، في الجولان كما في غيره من المناطق، يستلزم الاستيطان اليهودي المدني على النمط الإسرائيلي. كما وأنه بالرغم من وجود هكذا ادعاء للتزايد الحذر لأعداد المستوطنين في الجولان، يرصد التقرير الخاص، الذي نشرته مجلة Report on Israeli Settlement in the Occupied Territories ، تطور الاستيطان الإسرائيلي في مرتفعات الجولان السورية المحتلة، منذ بداية الاحتلال سنة 1967 وحتى سنة 1994 ويذكر عدّة مخططات، منها اقتراح استيطاني قدم في تشرين الثاني / نوفمبر 1967 إلى إقامة 20 قرية زراعية في القطاعين الشمالي والجنوبي من الجولان، على أن يبلغ عدد سكانها 7000 نسمة سنة 1982. وفي سنة 1969،نشرت خطة أُخرى تعرض آمالاً تتوقع قرابة 45 ألف إلى 50 ألف نسمة خلال عشرة أعوام. وبحلول سنة 1969، كانت 11 مستوطنة تعاونية (عدد سكانها 300 نسمة) قد أنشئت. وكانت ترتبط بأحزاب تنتمي إلى الائتلاف العمالي الحاكم. لمراجعة التقرير: الاستيطان اليهودي في الأراضي المُحتلة، المستوطنات الإسرائيلية في مرتفعات الجولان 1967 - 1994. مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 6، عدد 22 (ربيع 1995)، 130-138.

16. في عدّة مُناسبات سياسية كانت قد أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن خطّتها لزيادة عدد المستوطنين الإسرائيليين في الجولان بحوالي مئة ألف مستوطن خلال الأعوام الخمس الآتية. لمراجعة تحديث دوري حَول المستوطنات للمرصد - المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان .

17. المصدر السابق.

18. بالطبع بالإمكان قراءة السياسة الإسرائيلية وقرارها في الإبقاء على سكان الجولان الدروز بالأساس ومحاولاتها بتجنيسهم (فرض الجنسيات الإسرائيلية عليهم قسرًا) في محاولة منها لدمجهم في المجتمع الإسرائيلي وفصلهم وتمييزهم عن شتّى السكان العرب كنمط من أنماط "الاحتواء" الذي يهدف "للإبادة"، وهي فكرة يقوم بشرحها بشكل موسّع الباحث فيرتشيني في كتابه "الاستعمار الاستيطاني: مدخل نظري" تحت مصطلح: " elimination through assimilation".

19. وولف، باتريك (2006). الكولونيالية الاستيطانية واستئصال/محو السكان الأصليين. مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني، العدد 2. صفحات: 226-252. ترجمة للعربية: داليا طه.

20. وولف، باتريك. المرجع السابق (صفحة رقم 228 في النسخة العربية).

21. Sayegh, F. (1965). Zionist Colonialism in Palestine. Beirut, Lebanon:
Palestine Liberation Organization.

22. راجعوا المراجع السابقة التي ذكرت مقالة باتريك وولف المترجمة للعربية. ظهرت العبارة في الإنجليزية على الشكل التالي:
"Land is life – or, at least, land is necessary for life. Thus contests for land can be – indeed, often are – contests for life."

23. Said, E. (1979). The Question of Palestine. New York: Times Books, p. 9.

24. Bimkom - Planners for Planning Rights (2012). From Public to National: National Parks in East Jerusalem.

25. رام، موريئيل، وغوردون، نيف (2016). التطهير الإثني وتشكيل أنماط جغرافيا الاستعمار الاستيطاني. مدار - مجلة "قضايا إسرائيلية"، عدد 62، 70-93.

26. المرجع السابق.

27. إن إطلاق تسمية "أزمة المسكن" على القضية الحالية، إن كان في الخطاب المحلي أو الصحافي (وحتى العالمي منه)، هو أمر مغلوط، كَون أن التسمية تتجاهل الظرف الاستعماري مما يجري في الواقع. فالحديث هنا ليسَ على ازدياد طبيعي للسكان واحتياج متزايد في البناء والمساحات، إنما على ممارسات كولونيالية مستمرة تهدف إلى تقنين المساحات المُتاحة للبناء للسوريين في الجولان، وإعاقة حصولهم على تصاريح بناء، واراضي زراعية ومياه الري وأمور حياتيّة أخرى.

28. حلبي، أسامة ومرعي، تيسير (1993). الحياة تحت الاحتلال: مرتفعات الجولان. مجلة الدراسات الفلسطينية، 4(13)، 29.

29. انظروا صفحة 107 في: ناشف، إسماعيل. (2012). معمارية الفقدان: سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة. الناشر: دار الفارابي.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • علم الآثار ورسالته: الحضور البريطاني في القدس في القرن التاسع عشر

      علم الآثار ورسالته: الحضور البريطاني في القدس في القرن التاسع عشر

      في عام 1834، أصدر جيمس كارترايت James Cartwright))، الأمين العام لجمعية لندن لاعتناق اليهودية "London Society for the Conversion of the Jews"، كُتيِّباً بعنوان The Hebrew Church in Jerusalem (الكنيسة العبرية في القدس)، وشرح فيه دوافع نشاطات الجمعية في فلسطين. ومن ضمن ما ادّعاه جيمس في هذا الكُتيّب، هو أنه "على مدار سنين طويلة، كانت للكنيسة المسيحية فروعٌ (أماكن مقدسة: المُترجم) للصلاة في القدس. الإغريق، الرومان الكاثوليك، والأرمن؛ جميعهم كانت لهم كنائسُ للصلاة في القدس. حتى إنه كان للأتراك مسجدٌ، وكان أيضاً هناك كنيسٌ لليهود. وحدها المسيحية الإصلاحية (Christianity of the Reformation) ظهرت كأنها غريبةٌ عن هذا المكان".

    • السياسات الجنسية ضمن السياق الاستعماري في فلسطين

      السياسات الجنسية ضمن السياق الاستعماري في فلسطين

       

      لطالما تنقّلت المعرفة والمفاهيم الفكريّة عبر الحضارات والجغرافيّات المُختلفة، على غرار البَشر، و"سافرت"، كما يُذكّرنا إدوارد سعيد في مقالته الشهيرة "سَفر النظرية" فالمفاهيم الفكريّة، التي غالبًا ما ننظر من خلالها  إلى أنفسنا، و"ذواتنا" ونستعملها كأدوات لتحليل ظرفنا الماديّ، الرمزيّ والفكريّ، إمّا أن تنتقل قسرًا من مَوضع  إلى آخر نظرًا لقوّة وهَيمنة "مالكها"، وإما أن تتشكّل كمواجهة للقوى المُهيمنة وردًا عليها، أو أنها، في أحيان نادرة، تنشأ مستقلّة وشاملة في نقدها، متفوقة على دوافع الردّ المعرفي المضاد.

    • ممارسات الهُويّة القوميّة في التعريف القسريّ

      ممارسات الهُويّة القوميّة في التعريف القسريّ
      إنّ مسألة القوميّات والهُويّة الوطنيّة أصبحت سؤالًا جَدليًّا مُلحًّا، لا سيّما في سياق التحوّلات العالميّة الاقتصاديّة والتكنولوجيّة والاجتماعيّة عامّة وفي ظلّ النزاعات الطاحنة والمستمرّة في الشرق ال

حوار مع مظفر النواب - الجزء الأخير

س: هناك حديث كثير عن أزمة الشعر وعن العلاقة بين تطور الوسائل السمعية والبصرية والرقابة والمصاعب المادية وأسعار الورق. فهل الشعر في أزمة؟

م ن: لقد طرحت أشياء عديدة. إن طغيان المرئيات، التلفزيون والـ «سي إن إن» وغيرها، سوف يشغل الناس لفترة. لكن الأذن تظل دائماً بحاجة إلى شيء آخر. أنا مثلاً لا أحب أن أشاهد التلفزيون كثيراً. أحب أن أسمع ولا أدري لماذا. بعد فترة سيكون هناك توازن مرة ثانية. الجانب الثاني هو أسعار الورق والرقابة. طبعاً هذه تؤثر بشكل سلبي. وعندنا في البلاد العربية هذه الظاهرة، مع الأسف، أكثر تفاقماً. فقليل من الناس يمكنهم أن يشتروا كتاباً. مثلاً، بعض الكتب في سوريا سعرها ٨٠٠ ليرة وراتب الموظف ٣٠٠٠. أما في العراق فالموضوع لا يمكن الحديث عنه.

س: من الواضح أن هناك انحساراً في جمهور الشعر. هذه ظاهرة عالمية لا تقتصر على السياق العربي. هناك من يقول إن قصيدة النثر هي السبب؟

م ن: هناك قصائد نثرية جميلة. لا علاقة لقصيدة النثر بالموضوع. هناك علاقة بالاغتراب. بعض التيارات تطرح ما معناه أنه كلما كانت هناك غرابة أكثر في القصيدة وصعب فهمها فهي قصيدة عظيمة. وهذا شيء سيئ جداً. وهو في الحقيقة عجز من جانب تيار معين عن إيجاد جو شمولي للقصيدة. القصيدة تحتاج إلى جو وفضاء شموليين. وعند عدم مقدرتهم على توفير هذا يجمحون إلى الغرابة والغموض. تعجز أنت عن الفهم وتصبح أنت المتهم! الجماهير، بفطرتها، عندها عزوف عن هذا ولن تتابعه. وهذا هو رد فعل طبيعي وسليم وشيء جيد. أحياناً يكون الغموض جزء من المادة ويضيف لها جمالية. هذا الغموض ليس غريباً. أما تقصّد الغموض فهو مرفوض.

س: إذا ليس لديك مآخذ على قصيدة النثر كشكل. هل تعتقد أن بإمكانها أن تأخذ مكانتها؟

م ن: لن تحتل مكان أي شيء آخر. يبقى النهر نهراً والبحر بحراً والساقية ساقية. كل واحدة لها إيقاعها.

س: هناك من يتهمك بالمباشرة؟

م ن: هذا ليس اتهاماً وأنا أقول هذا.

س: هم يرون المباشرة عيباً.

م ن: أنا لا أتصورها عيباً وإلا لكنت تجنبتها.

س: هل هذا هو الثمن الذي تدفعه لكونك قريب من الجماهير؟

م ن: أنا دائماً أقول إنه عندما يكون لدي الوقت الكافي، أعمل على القصيدة كما يحلو لي. لكن هناك ظروف معينة. مثلاً، عندما احتلت إسرائيل لبنان، فهذا موقف يسحب فيه شخص سلاحاً لكي يقتلني. وبجانبي سكين لكن شكلها ليس جميلاً. ألا أستخدمها لضربه؟ بل سأستخدمها. أنت أحياناً تحتاج لأن تدافع عن وجودك وعن وجود أمة وشعب. فتستعمل السلاح القريب منك. لا تجلس لتفكر كيف تزخرف الخنجر. جميل جداً أن يكون الخنجر مزخرفاً. هذا رائع. ولكن في ظروف معينة تصبح القصائد برقيات. كنا نبعثها بالفاكس أيام لبنان. كانت تلعب دورها بين الناس وهذا ما يجعلني أكثر قرباً منهم. وعندما تكون قريباً من الناس تشعر بالكون بصورة أفضل. تشعر أنك جزء من النسيج الحي.

س: لمن تحب أن تقرأ؟ من يلهمك؟

م ن: أحب قصائد وليس شعراء. أحب المتنبي، مثلاً، في أغلب قصائده. لا أحب المديح. فيه صور جمالية لكنني لا أحبه. منذ صغري كنت أذهب إلى مكتبة والدي وآخذ ديوان المتنبي لأقرأه. وعندما يصل إلى المديح كنت أتركه.

س: ومن المعاصرين؟ إذا ذكرت لك أسماء هل من الممكن أن نعرف رأيك بها؟

م ن: لا أحب أن أجيب على أسئلة كهذه.

س: طيب. هل من المكن أن تحدثنا عن تجربتك المسرحية الأخيرة؟

 م ن: هناك مجموعة من الشباب العراقيين في الشام. جاء قسم منهم من معسكر رفحة ومنهم من هو مخرج. كان لديهم جو من اليأس بخصوص إمكانيات العمل. فتكلمت مع شاب منهم وقلت له لماذا لا نقوم بعمل؟ كانت لدي محاولات مسرحية أيام يوسف العاني وكان يقول لي لماذا لا تكتب؟ فقلت لهذا الشاب إني سأكتب نصاً. لكي نذكّر الناس بأجواء العراق. وهذا هو المقصود أساساً وهو إعادة العراق للذاكرة. لأن الموجودين في الخارج بدأوا ينسون شيئاً فشيئاً. لكي نذكّر الناس. وسأكتبه بالعامية. فوافق وكان متحمساً وهو لديه قدرة إخراجية. جمعنا عدداً من العراقيين الموجودين في الشام من مختلف الاتجاهات: قصة وشعر. ووافقوا على الاشتراك معنا في التمثيل. لم تكن لديهم خبرة سابقة في التمثيل. واشتركت معنا بعض الأخوات السوريات، وهن ممثلات، لأننا كنا بحاجة إلى العنصر النسائي. وكان هناك شاب مغربي أيضاً. كان عدد الممثلين أكثر من عشرين وهذا صعب. يتطلب مقدرة كبيرة على تحريك المجاميع وقدرة جمالية في فهم فضاء المسرح. كنت أكتب فصلاً وأعطيهم إياه ليعملوا عليه. وفي الحقيقة فهم بذلوا جهوداً مضنية وعملوا في ظروف صعبة. كان العمل في المنتدى العراقي في دمشق. وحصلنا على تبرعات من النادي العراقي في ألمانيا ومن بعض الأشخاص. من صديقة سورية وصديق ليبي. واستمر التدريب لمدة سبعة أشهر. العمل الذي اخترته يدور حول التجربة التي عشتها في موقف السراي. كل شخصيات المسرحية هم من العاديين. واحدة منها فقط هي شخصية سياسية وانتهازية.

س: هل تم تصوير المسرحية؟

م ن: صورت، ولكن للأسف، لم تكن لدينا آلات حساسة. هناك بعض المقاطع التي صورها المخرج ولكن لم أشاهدها. الشخصية الرئسية حشاش كان معنا في موقف السراي اسمه «أبو سكيو». وكان محششاً وعيناه مغمضتان على مدار الساعة. لم أكن أنام في الليل. وفي الصباح كان هو يعمل الشاي لكي يصحو وكنا نتحدث. كان يتكلم وهو مغمض العينين ويحدثني عن «درابين» بغداد القديمة وساحة الكشافة والمكتبلية وعن سبب حجزه. كانت لديه حكايات كثيرة. كان يبيع «الباگٓلة» أمام وزارة الدفاع ويوقف عربته أمام محل لبيع الفاكهة. كان زبائنه يلقون بالقشور على الأرض بعد الأكل، فكان صاحب الدكان يتعارك معه ويقول له: لا تقف أمام دكاني لأنك توسخ الرصيف. وذات يوم قلب صاحب الدكان العربة وصادف أن مرت واحدة من الميدان كان أبو سكيو يحبها فخجل لأنه ضُرِب أمامها. فقام أبو سكيو بحرق الدكان في الليل وتم توقيفه. في المسرحية يسأل أحد الموقوفين، وهو السياسي، أبو سكيو: لماذا أنت هكذا؟ فيقول له أبو سكيو: كنت على ما يرام. لكن عندما بدأت أقرأ جرائدكم بدأت بالتحشيش. فالمسرحية فيها نقد لاذع ومر وإدانة للشخصية العسكرية. المسرح مقسوم إلى قسمين وفوق الموقف هناك عسكري يروح ويجيء مرتدياً نياشينه وهو المسؤول عن الوضع كله.

س: ما هي أقرب قصائدك إلى نفسك؟

م ن: كلها قريبة إلي. أنا أستمتع بآخر قصيدة أكتبها أكثر. الآن أعمل على قصيدة بالعامية. في البداية لا أكتب. بل أقلب الفكرة في ذهني.

س: للكتّاب طقوس وعادات معينة. هل تكتب في أوقات محددة؟ هل لديك طقوس خاصة؟

م ن: ليس عندي قانون. مثل الشرب. فأحياناً أشرب وأحياناً لا.

س: هل تمر بفترات جفاف لا تكتب فيها؟

م ن: كلا. في البداية ربما. أحياناً تمر ستة أشهر دون أن أكتب. وأنا أعرف هذه الفترات. قد أضجر فيها. لا أكتب ولكنني أجمع بشكل غير واع. أقول في إحدى القصائد « يغرق الداخل بالزبل إذا ما أضرب الشعر ليومين.» 

س: عندما تركت بغداد آخر مرة، هل كان لديك شعور أو حدس أنها ستكون آخر مرة؟

م ن: عندما حلقت الطائرة فوق بغداد، وشاهدتها من فوق، بكيت وعرفت أنني لن أرجع لزمن طويل.

س: متى كان ذلك؟

م ن: بعد أن أتوا بعدة أشهر (١٩٦٨).

س: حين تحن إلى بغداد ما هي الصور التي تمر بذهنك؟ هل هناك صور أو أشخاص معينون؟

م ن: كل شيء. بالذات أيام الطفولة. لكنني أتذكر كل الناس ولدي حنين شديد لهم. بعضهم رحل إلى غير رجعة.

س: تنقلت في مدن عديدة في المنفى. فهل هناك مدن أحسست فيها بحميمية أو ارتحت أكثر فيها؟

 م ن: عشت في أوربا ثماني سنوات ولم أحبها. عشت في اليونان وفي باريس و ومدن أخرى. عندما أكون على الطائرة إلى أي بلد عربي أجدني أبتسم دون إرادتي. حينما أذهب بالطائرة إلى ليبيا، مثلاً، أشعر بقدوم الشمس. في سوريا كذلك نفس الشيء. ولدي أصدقاء كثر وهناك ود عجيب بيني وبينهم.

س: وقعت عدة محاولات ضدك. هل من الممكن أن تحدثنا عنها؟

م ن: هم يتابعونني. ذات مرة التقيت بشخص من حراسات صدام أثناء اختطافي في اليونان.

س: متى؟

م ن: أيام الهجوم على المفاعل النووي العراقي. سحب مسدساً وعليه كاتم للصوت وكان أحد الأسئلة التي وجهها لي هو عن جواز السفر الذي استخدمه. كانوا سينقلوني للسفارة لإجراء تحقيق طويل معي. فقلت له: جواز عراقي. ولم يكن هذا صحيحاً حيث أنني استعملت عدة جوازات. فقال لي: دوختنا ثلاث عشرة سنة. كلما تبعناك إلى مكان ما تتحرك إلى مكان آخر. مما يعني أنهم كانوا يتابعوني.

س: هل كنت تتقصد مراوغتهم؟

 م ن : كنت حذراً ولكن ليس بالقدر الكافي.

س: وكيف تخلصت منهم؟

 م ن: قصة طويلة. ربطوني بحبال وزرقوني بإبر منومة. ولكن كان لدي إحساس داخلي بأنني سأنجو. كنت أشعر بذلك.

س: وماذا عن المحاولة التي وقعت في اليمن؟

م ن: كان هناك تخطيط لمحاولة. ولكن اتصل شخص من السفارة ليحذرني من الذهاب إلى مكان معين. زوجته حثته على أن ينبهني. لم يذكر اسمه ولكنه قال إن زوجته كانت تصب الشاي لمجموعة كانت تجتمع في بيته وسمعتهم يتحدثون عن الخطة ونقلت الكلام له.

س: قلت لي في لقاء سابق إنك التقيت مرة بصدام؟

م ن: نعم. بعثوا علي من القصر الجمهوري وكان حديثاً طويلاً. كانوا يحاولون استرضائي بكافة الوسائل وعرضواعلى أن أشغل منصباً. لم أكن مستهدفاً بصورة شخصية آنذاك.

س: كان صدام نائباً للرئيس في حينه؟

 م ن: كلا، لم يكن لديه أي منصب. كان قيادياً في الحزب. لم يكن متوتراً وكان دمثاً في الحوار بالرغم من إجاباتي التي كانت واضحة جداً. مثلاً أحد الأسئلة التي سألها هو: ألا تثق بنا القيادة المركزية؟ وكنت أتكلم معه علي أساس أنه ليست لي علاقة بأحد. فقال لي: حسناً. أنت، مطفر النواب، هل تثق بنا أم لا؟ فقلت له: يمكنك أن تعيدني إلى الموقف. ليس عندي ثقة بكم. ضحك ولم يقل شيئاً. لا أدري. هو لديه تفكيره وأبعاده. لكن هذا ما دار.

س: ماذا تذكر عن فهد؟

 م ن: كنت صغيراً عندما أعدم. كنت طالباً في المتوسطة. أذكر أن أحد الذين أعدموا معه كان يهودا صدّيق، وكان يدرسني مادة الهندسة.

س: هل هناك شيء ندمت عليه فكرياً أو حياتياً؟

م ن: لا. هذه حياتي ولو عادت من جديد فستكون كما هي. بالعكس، أنا سعيد لأن هذه الحياة مكنتني من أن أكتب وأن أرسم.

س: هذه ثاني زيارة لك لأمريكا خلال عام. ما هي انطباعاتك عنها وعن ثقافتها؟

م ن: بلد ضخم. ضخم فقط. بصراحة، لم أحتك بالمجتمع الأمريكي.

س: تحدثت عن دستيوفسكي. لمن تقرأ من الأباء العالميين وهل تقرأ الشعر المترجم أو الروايات؟

 م ن : أقرأ الشعر المترجم ولكن لا أحبه بالضرورة. هناك أشياء أحبها لكن الكثير يضيع في الترجمة. أقرأ الكثير من الروايات. وأحب قراءة الكتب العلمية وكتب الفلك. فيها خيال عجيب وتضيف أشياء كثيرة. كما أحب القراءة في علم الأحياء والوراثة وأحاول اقتناء هذه الكتب، خصوصاً بعد تجربة موت سريري مررت بها في عدن.

س: موت سريري؟ كيف؟

م ن: قصة طويلة لا يتسع لها المجال. أنا أظل أعاند وأي قضية لا أوافق عليها لابد أن أفهمها. وهذا كان أحد الخلافات في العمل السياسي. فهم يقولون لك يجب أن تنفذ ثم تعترض. ما هي الفائءة؟ بعد خراب البصرة؟ أنا أعتقد أنه رذا لم تفهم قضية ما يحب أن تستمر بالاعتراض. كان يجب أن أفهم تجربة عدن، فقرأت كمية هائلة من الكتب. بقيت لسنة ونصف في القاهرة أتابع الموضوع. قرأت كتباً كثيرة في الفيزياء وكل ما له علاقة بالتجربة ولا تزال غير مفهومة.

س: هل هناك محاولات لترجمة شعرك؟

م ن: هناك شخص قام بترجمة «وتريات» إلى اللغة الانكليزية وبعث لي بنسخة. الطاهر بن جلون ترجم بعض القصائد إلى الفرنسية ونشرها في «اللوموند». وهناك شاب عراقي في الدانمارك ترجم قصيدة واحدة ونشرت ضمن مجموعة لشعراء عراقيين. كما أن هناك باحثة أمريكية تعد كتاباً عن شعري وهي التي قدمتني في العام الماضي في جامعة هارفارد.

س: هل من الممكن أن تحدثنا عن تجربة الهرب إلى إيران واعتقالك هناك؟

م ن: بعد انقلاب ١٩٦٣ هربت عن طريق المحمرة إلى إيران واختفيت في طهران لفترة. كانت رجلي قد التوت وتورمت لأنني كنت ملاحقاً وتهت أثناء العبور. في إيران اتصل بعض العراقيين بالتنظيمات اليسارية هناك فهيأوا لنا سيارة تبرع بها أحد الأصدقاء. وبعثوا معنا بشخص ليذهب معنا إلى الاتحاد السوفيتي. وكنا قد ادّعينا بأننا نذهب إلى مصيف. أنا كنت أتكلم القليل من الفارسية. أحد الذين كانوا معنا لم يكن يعرف الفارسية فادعى أنه أخرس. ولكنهم اكتشفوا الأمر وأعادونا إلى طهران حيث تم تعذيبنا. وجدنا عدداً كبيراً من المعتقلين معنا. بقينا هناك من الشهر السابع، حين ألقي القبض علينا، إلى الثاني عشر. ولم نعلم بحصول تغيير في العراق وبقدوم عبد السلام عارف. ويبدو أنه كانت هناك صفقة بين الحكومتين، العراقية والإيرانية، لاستبدالنا بمناضلين من حزب توده. فأعادونا إلى البصرة. أخذونا إلى موقف البصرة ثم عزلوني وأخذوني إلى العمارة لأنني كنت أذهب إلى الأهوار. وبعد تحقيق شكلي أرسلوني إلى بغداد. وفي بغداد أحالوني إلى المجلس العرفي. ولم تكن محاكمة. تقف ويطلبون منك أن تشتم الحزب الشيوعي. وإن لم تشتم يحكم عليك، وإن شتمت تحصل على البراءة. ووضعوني في البداية لكي يؤثروا على مئة وعشرين شخصاً. كلنا كنا من الكاظمية. وأنا كنت في بغداد وقاومت في ساحة التحرير وليس في الكاظمية. قالول لي: اشتم، فقلت لهم: كلا. قالوا: اشتم كل الأحزاب، فقلت: لا. هم أرادوا أن يؤثروا على موقف البقية على أساس أن انهياري سيضعفهم. فحكموا علي بعشرين سنة وأخذوني إلى غرفة جانبية وحكموا علي بثلاث سنوات من أجل قصيدة «البراءة». حاول أهلي أن يخرجوني بالواسطات وما شابه ولكن دون جدوى. كان المدعي العام هو غالب فخري والحاكم نافع بطة.

س: وماذا عن محاولة والدتك زيارتك في طهران وتأثيرها في حياتك؟

 م ن: بدأت معاناة والدتي معي منذ بداية ارتباطي بالحركة السياسية. فهي كانت معي في كل خطوة. كانت تزورني كل يوم في الموقف وكل أسبوع عندما كنت في نگرة السلمان. وعندما سمعت أنني كنت في السجن في طهران صممت على أن تأتي. وكان الحصول على جواز مسألة شبه مستحيلة. فعبرت الحدود بصورة غير شرعية (قچغ). ووصلت إلى نفس السجن الذي كنت فيه لكنها لم ترني لأنه في نفس اليوم تم تسليمي للعراق. وعندما عادت عرفت بأنني حوكمت. عندما خرجت من العرفي كنت في سيارة مشبكة، فقلت لها: «عشرين سنة». وبدأت الزغاريد بعد أن قلت ذلك. هم كانوا يخافون من أن يكون الحكم بالإعدام. توفيت والدتي في العام الماضي. أخبروني وأنا في مطار تونس. وتضايقت جداً لأنه لم يكن بجانبي أحد. أحسست قبلها بوقت مثلما أحسست بوفاة والدي.

س: كيف؟ ومتى توفي الوالد؟

 م ن: توفي الوالد في ١٩٨٢. كنت أتصل بهم مرة كل أسبوع أو أسبوعين. ومرت فترة أسبوعين ولم تكن لدي رغبة بالاتصال. لم يكن هناك اتصال من ليبيا. وفي تونس، من رنين الهاتف أحسست بوجود فراغ في البيت وكأنها غير موجودة. اتصلت بكل البيوت ولم يكن هناك جواب. ثم رفع السماعة ابن أختي وقال: قبل قليل أخذوها إلى النجف.

س: هل صحيح أنه كانت هناك محاولة لاغتيالك بعد أن قلت جملتك الشهيرة «يا أولاد القحبة، لا أستثني منك أحداً»؟

 م ن: أطلق علي النار ذات ليلة ولكنني نجوت. الآن تعودوا عليها (يضحك).

س: هناك أسئلة كثيرة ولكن، للأسف، ليس هناك وقت.

م ن: الأسئلة ما تخلص (يضحك).

س: شكراً جزيلاً.

م ن: يا أهلاً ومرحباً.

***


يمكن قراءة الجزء الأول هنا والثاني هنا.